بقلم : أحمد موسى عبد المطلب
----------------------------
" اتفضل يا أكرم "
قالتها زوجة أكرم و هي تناوله ورقة مطوية ثم أردفت قائلة :
الورقة دي فيها الحاجات اللي احنا محتاجنها ، يا ريت متنساش تشتريها و انت
راجع من شغلك .
قال أكرم في اقتضاب و هو يختطف منها الورقة ثم يضعها في جيبه : مش هنسى .
قالها ثم أسرع خارج المنزل و كأنما يود الهرب من أي طلبات أخرى . .
***********************************************************
كان أكرم في طريقه إلى خارج مقر عمله عندما استوقفه زميله رمزي قائلاً :
استنى يا أكرم اخدك معايا في سكتي للبيت .
قال أكرم مبتسماً : شكرا يا رمزي بس لسه هشتري شوية حاجات قبل ما أروح . .
قال رمزي : و ايه المانع ؟! اخدك معايا برضو
قاوم أكرم رغبته الشديدة في الموافقة وهو يقول في إصرار : لا ، مش عاوز أعطلك
، اتكل انت على الله .
و استمرت محاولات الاقناع من رمزي و كذلك استمر أكرم في العناد ، حتى لم يجد
رمزي بداً من الإذعان لرغبته أمام تصميمه ذاك ..
خرج أكرم من عمله و قد كان في شدة السخط و هو يقول لنفسه غاضباً : يا سلام
على غبائي ، كان لازم البس ثوب المروءة دلوقتي ، ده انا استاهل اللي هيجرالي في
المواصلات .
****************************************************************************
وصل أكرم بعد عناء شديد و متوقع في الحافلات الحكومية إلى تلك السوق الكبيرة
في أحد المناطق التجارية النشطة بالقاهرة و طالما ما كان يصيبه الذهول من كم ما
تحتويه تلك السوق من سلع و منتجات مختلفة ، كل شيء و أي شيء كان يُمكن أن يتواجد
هناك ، كل شيء ( ربما باستثناء الطائرات و السفن و مركبات الفضاء و القنابل
النووية ) )
أخرج أكرم الورقة التي تحوي بين طياتها قائمة المشتريات ثم وقعت عيناه على
أول طلب و قد كان " آلة حاسبة حديثة موديل ××× لحل المعادلات "
طوى أكرم الورقة قائلاً : فين أيام لما كنا بنشغل دماغنا في الحسابات ، هي
الرفاهية الزيادة دي هي اللي خربت عقولنا .
توجه أكرم إلى أقرب المتاجر التي تبيع المستلزمات الدراسية من أقلام و دفاتر
و غيرها و هناك وجد أعداداً و أنواعاً لم يتصور وجودها قبلاً قط !
و كذلك أسعاراً متباينة تبدأ من شبه الصفر إلى الآلاف المؤلفة !
و تمنى لو كان كُتب في ورقة المشتريات و بجوار كلمة آلة حاسبة تلك الجمل
التي يعشقها و هي " بأرخص سعر ممكن "
فلو رآها لكان الان في أفضل حال ، و لكنه لم يجد مفراً من أن يطلب من البائع
ذلك النوع الذي حُدِدَ له في الورقة .
و لكن فُوجئ بالبائع يُبسط أمامه أكواماً من العُلب التي تحوي بداخله الآلات
الحاسبة فقال له مندهشاً : ايه كل ده ؟! أنا طلبت آلة واحدة بس مش المحل كله !
أجاب البائع : في أكتر من موديل من النوع اللي حضرتك طلبته ، و دي معظم
الموديلات من النوع ده ، حضرتك اختار اللي يعجبك .
قال أكرم بدون أن يتلاشى ذهوله : حتى الآلات الحاسبة بقى فيها موديلات ، زمن
عجيب !
أخذ يفتش وسط أكوام الآلات المتراصة أمامه و هو يستطرد قائلاً : بس أنا عارف
أنا هجيب ايه .
و آخذ أكرم يتناول كل واحدةً على حدى فيفحصها من جميع الجوانب من الداخل و
من الخارج و ربما ساعده على ذلك البحث انشغال البائع بتعاقب الزبائن على المتجر .
و بعد فترة ليست بالقصيرة ، فحص خلالها أكرم كل ما أمامه تقريباً توجه برأسه
و الذي كان قد تصبب عرقاً للبائع و هو
يقول : طلبي مش موجود في كل دول للأسف .
صاح البائع متسائلاً في استنكار شديد : و هو ايه طلب سيادتك !
أخبره أكرم بطلبه ، فأجابه البائع و هو يهز كتفيه : و ليه سيادتك مقلتش طلبك
من الاول ، لا معندناش و معتقدش انك هتلاقيه عند أي حد تاني . .
لم ينبس أكرم ببنت شفة و خرج من المتجر في صمت !
****************************************************************************
توجه أكرم إلى ذلك المتجر الكبير في ذلك السوق التجاري آملاً أن يجد رغبته
فيه ، و هناك تكرر نفس الموقف السابق ..
فدخل أكرم المتجر و طلب ذلك النوع من الآلات منه ثم بسط البائع أمامه
موديلات مختلفة فأخذ أكرم يفحصها كلها بنفس الطريقة العجيبة ، و لا يلبث أن ينتهى
من فحصه ذاك بدون نتيجة إيجابية ! ، و يتكرر سؤال البائع عما يريده أكرم ، و تتكرر
الاجابة ، و يتكرر النفي من البائع
و استمر الأمر يسير على هذا المنوال في العديد من المتاجر ، قبل أن يتسلل اليأس أخيراً إلى قلب أكرم
فغمغم في إحباط : نأجل موضوع الالة الحاسبة دي شوية و ننقل على اللي بعده .
قالها ثم أخرج الورقة المطوية من جيبه مجدداً و قام بفضها و نظر إلى
الطلب الثاني في القائمة و الذي كان " ساعة يد ( عقارب ) " للمدام
و بالنسبة إليه كان من السهل جداً أن يجد متجراً لابتياع تلك الساعة
المطلوبة و لكن من المنظور المادي لم يكن الأمر بتلك السهولة قط .
و لكنه لم يجد مفراً من التنفيذ .
و في حيرة شديدة أخذ ينظر لواجهات المتاجر في انبهار ، كانت الساعات ذات
أشكالا ً و ألواناً تسيل اللعاب بحق ، و لكن انبهاره هذا لم يكن بسبب جمالها
فحسب ، بل كان بسبب سعرها أيضاً .
و بعد فترة من التحديق في واجهات المتاجر المختلفة استقر أخيراً على متجر
اعتبره الارخص سعراُ نسبياً .
و بخطوات مرتعشة ، دلف أكرم للمحل .
ابتسم له البائع قائلاً : أهلاً و سهلاً يا أستاذ ، آمر و فور دخوله للمتجر
رد أكرم : عاوز ساعة حريمي عقارب و احم .. سعرها يكون معقول .
و بسرعة عجيبة و كأنما يعرف طلب أكرم مسبقاً دس البائع يده في كومة من أكوام
الساعات الهائلة و أخرج له ساعة ذات لون فيروزي هادئ و لامع في الوقت ذاته في
تناقض عجيب .
أنبهر أكرم أشد الانبهار بتلك الساعة فسأل للبائع : تسمحلي اشوفها ؟
ناوله البائع الساعة قائلاً : ده أكيد ، اتفضل .
أخذ أكرم يفحص الساعة بنفس طريقة فحصه للآلات الحاسبة .
و بعد أن أنتهى من فحصها نظر إلى البائع و هو يقول مبتسماً :
xxxx
|
رد البائع بابتسامة أكبر كاشفاً عن أسنانه الصفراء : ب جنيه !
تلاشت ابتسامة أكرم و قال في سرعة : وحشة اوي الساعة دي ، لونها مش ظريف
خالص و مش بنفس المواصفات المطلوب .
صمت قليلاً ثم أضاف : شوفلي أرخص حاجة عندك .
قال البائع في دهشة : زي ما حضرتك عاوز !
أخذ البائع يبحث وسط أكوام الساعات الموجودة و أخيراً أخرج له ساعة
تبدو أقل بهجة وجمالاً و ناولها لأكرم قائلاً : اتفضل دي أرخص ساعة في المحل .
XX
|
رد البائع : ب جنيه بس !
قال أكرم مبتسماً : اه تمام ، و الساعة فعلاً شكلها حلو و مناسب .
قالها ثم بدأ فحصه الروتيني المعتاد ، بدأ جولته من واجهة الساعة ، ثم أخذ
يفحص جانبيها في عناية بالغة ثم إلى غطائها ..
و فجأة تكرر ما يحدث في كل مرة .. فتلاشت
ابتسامة أكرم و حل محلها عبوس و غضب و هو يعيد الساعة للبائع و هو يصيح في حنق :
ده كتير ، كتير أوي .
تناول البائع الساعة من أكرم في عناية قائلاً في تعجب : فيه ايه يا استاذ
مالك ؟ هي الساعة معجبتكش و لا ايه ؟
و لكنه سؤاله هذا تردد بلا جواب
و ذلك لأن أكرم لم يعد موجوداً داخل المتجر ..
.. بل غادر تماماً
****************************************************************************
تكرر ذلك السيناريو مجدداً في ما بقي من قائمة المشتريات
فقد كاد أكرم أن يكسر خلاطاً كهربائياً في محل الادوات المنزلية بعد أن أجرى
عليه ذلك الفحص الروتيني ، و الذي آثار سخطه كالعادة .
ثم لمح في قائمة المشتريات كلمة " دبدوب ..
فدخل في معركة شرسة مع دمية في
محل ألعاب الاطفال " بعد أن تكرر نفس الفحص العجيب
و في النهاية وجد أكرم نفسه عائداً للمنزل متأخراً عن موعد انصرافه من العمل
بعدة ساعات .. و الأسوأ من ذلك أنه عاد خالي الوفاض ! بدون أن يشتري و لو شيئاً
واحداً فقط مما كان مكتوباً في الورقة .
و خطا إلى داخل المنزل بهدوء و هو يقدم ساقاً و يؤخر الثانية !
و أخيراً أصبح أكرم داخل المنزل و لكن لم يكد يدخل حتى فوجئ بزوجته أمامه
كما لو كانت تتربص به ، لاحظت هي تلك الصدمة المرتسمة على وجهه فهتفت : ايه اللي
آخرك كده يا باشا .
أجابها أكرم بتلعثم سببه التوتر : كــــ ... كنت فيـــ ، في الشغل ، و بعدين
رحت عشان اشتري الحاجات .
قالت له في دهشة : بس أنا مش شايفاك شايل حاجة يعني . .
قال لها و قد تضاعف توتره مرات و مرات : اصلي .... اصلي
صاحت له في غضب : اصل ايه ؟ ما تجمع كلامك !
قال أكرم : اصلي مشتريتش حاجة .
قالت في ثورة : افندم ، امال كنت بتهبب ايه كل ده ؟!
رد أكرم : كنت بدور بس ملقيتش حاجة من اللي انتوا عاوزينها .
صرخن في ثورة : انت هتستعبط يعني ايه ملقيتش ، الحاجات دي تلاقيها في اي حتة
، ده انت نهارك مش فايت النهارده .
حاول أن يفسر لها مع حدث ، و لكن يبدو أن
التفسير لم يرُق لها كثيراً ..
و لذلك نشبت المعركة المرتقبة في المنزل .
****************************************************************************
في اليوم التالي و برغم ما حدث معه من مشاكل في ليلته الماضية ، ذهب أكرم
إلى عمله مبتسماً لسبب ما .
و بعدما أنهى عمله بدا عليه الارهاق ، و لكنه تناسى كل ذلك و أتجه إلى مديرة
مكتب المدير مباشرة و سأل سكرتيرة المكتب قائلاً : اقدر ادخل ؟ عاوز أكلم سيادة
المدير في موضوع مهم جداً .
ردت قائلةً : ثواني ، ادخل ابلغه .
قالتها ثم نهضت و اتجهت إلى باب مكتب
المدير فطرقته ثم دلفت إلى الداخل ، و بعد لحظات خرجت من المكتب و توجهت إلى أكرم
و هي تقول : اتفضل ادخل .
تهللت أسارير أكرم ، و توجه بسرعة إلى باب المكتب فطرقه و انتظر حتى أُذن له
بالدخول ثم فتح الباب ، و خطا لداخل المكتب بهدوء و رهبة .
و في الداخل كان المدير جالساً على كرسيه المعتاد ، و أمامه شخص طويل أسود
الشعر و العينين ، أخذ يرمق أكرم بنظراتٍ فاحصةٍ ، تجاهله أكرم و توجه إلى المدير
و صافحه ففقال له المدير : أهلاً بأكرم الموظف المجتهد ، سلم على أستاذ حلمي ،
المدير الجديد لمركز التصميم .
صافحه حلمي قائلاً : أهلاً بيك يا أستاذ أكرم .
قال أكرم و هو منتشي من وصفه بالأستاذ : أهلاً بسيادتك يشرفني التعرف عليك ،
و خصوصاً في الوقت ده
نظر إليه حلمي بتساؤل : قصدك ايه ؟
قال أكرم بحماس : أنا عندي اقتراح حلو جداً لتطوير الانتاج في المصنع . .
قال له المدير : طيب اتفضل اقعد و قول اقتراحك يا سيدي .
جلس أكرم على الكرسي المجاور لكرسي حلمي ثم قال : أنا أقترح أننا بدل ما
نكتفي باستيراد المنتجات و نجمعها و بس ، اننا ننتج احنا المنتجات دي ، نستورد
المواد الخام المتوافرة بكثرة ، و بخبرات العاملين في المصنع ، نقدر نصنع منتجات
أكثر جودة بكثير من اللي بنستورده ، و الربح هيكون أكبر .
حدجه حلمي بنظرة ساخرة .. لم يكد ينتهي من حديثه
حتى
.. و تمتم المدير قائلاً
: الموضوع مش سهل يا أكرم ، و هيعملنا مشاكل و وجع دماغ على الفاضي ، خلينا كده
كويسين .
قال أكرم : لكن يا سيادة المدير .
قاطعه حلمي وقد انتقلت السخرية من عينيه إلى لهجته : انت بتشتغل ايه في
المصنع يا أكرم ؟
أجابه أكرم وقد أدهشه السؤال : بشتغل في قسم الواردات في المصنع .
قال حلمي بسخرية أكبر : طيب يعني مفيش علاقة بينك و بين المواضيع ، المفروض
انك تسعى لتطوير قسم الواردات ، و ملكش أي علاقة بالتصميم و الانتاج .
قال أكرم في محاولة للتماسك : انا بقترح اللي في مصلحة المصنع يا افندم .
صاح حلمي في حدة و هو يهب من على مقعده : بقولك ايه الموضوع ده في اختصاصي
أنا ، بلاش تتدخل فيه ، انت مش هتعرف مصلحة المصنع أكتر مننا .
قال أكرم و قد امتقع وجهه في شدة : بس أنا .
قاطعه المدير هذه المرة قائلاً : كفاية يا أكرم كفاية .
التفت إليه أكرم ، فتابع : انت تشيل الموضوع ده من دماغك دلوقتي خالص .
قال أكرم : لكن يا افندم .
قاطعه المدير مجدداً قائلاً في حزم : مع السلامة يا أكرم ، شرفتنا . مع
السلامة.
أحس أكرم بوخزة في صدره ، عندما أدرك أكرم أنه لا جدوى من النقاش
شعر بأنه حلمه قد تلاشى ..
. و للابد ..
و خرج من باب المكتب و قد وصل مقدار ما يشعر به من يأس و إحباط و مرارة إلى
الذروة
و عندما خرج من باب المكتب ، اخرج من جيبه ورقة مطوية ، تلك الورقة التي
كانت تحوي قائمة المشتريات التي أبى أن يشتري منها شيئاً .
و لكن في ذلك اليوم ، قرر الذهاب إلى ذاك السوق مجدداً
لشراء كل ما في تلك القائمة
و سواء وجد ما يرغب به أم لا
فسوف يشتريها ..
.. كلها
.. و بلا أي استثناء
****************************************************************************
" الأكل جاهز يا أكرم "
اخترقت تلك الجملة أذنيه و بدت له كدوي ألف رصاصة في وسط حاجز الصمت الناتج
عن الذكريات التي تفيض في رأسه .
أعادته تلك الجملة إلى عالم الواقع
فوقف على قدميه بصعوبة بالغة و توجه نحو باب الغرفة للخروج .
و في طريقه رأى تلك الاشياء التي كان قد اشتراها منذ قليل .
آلة حاسبة ، و ساعة يد ، و خلاط كهربائي ، و دمية .
و في أسى أخذ ينظر إلى تلك الاشياء ، و رأى تلك الجملة التي لم يكن يرغب
برؤيتها قط ،
تلك الجملة التي بدت له الان و كأنما تتعمد إغاظته و التي كانت تستثيره كلما
رآها
تلك الجملة التي غزت كل شيء نراه الان حتى كادت أن تغزو البشر أنفسهم و لذلك
لم يتحمل رؤيتها طويلاً فخرج سريعاً للهرب من رؤيتها .
... تلك الجملة التي كان تتكون من ثلاث كلمات فحسب و لكن قصتها تُحكى في ثلاث
مجلدات
.. تلك الجملة التي كانت :
" Made in China "
********************************************************
تمت
صراحة سكت لساني عن النطق .. توقعت أن يبحث أكرم عن صنع في مصر منذ عودته لشراء السلع بعد اقتراح المصنع.. الأغرب ان يرفض المصنع ما فيهه مصلحته لذا سنظل دوماً في خانة التابعين المستوريدن وليس المتفوقين المصدرين الذين لهم الكلمة العليا في سوق التجارة .. متى سنتقدم ونرى مصر بدلاً من الصين
ردحذفتحياتي الخالصة ايها المبدع
هبة الله