الاثنين، 27 أغسطس 2012

لا ترحلى قصه بقلم أحمد موسى

















" أين ذهبتي ؟ 
قلتها في خفوت شديد و كأنما أخشى أن يسمعني أحد ، ثم بدأت ألتفت نحوي و أجول ببصري هنا و هناك آملاً بأن أراها مجدداً .. بأن أجدها .. و لكن دون أي جدوى
يبدو أنها رحلت من جديد ...
تركتني كما فعلت مسبقاً ...
و كان ذلك كله بسببي أنا ...
فأنا من ظلمتها دوماً .. إنه خطأي لأنني لم أذعن لرغبتها و كم كانت محقة 
و كم أنا نادم الان !
و لكن بما يفيد الندم ؟؟
أتمنى فقط أن أراها فقط ثانيةً ، عندئذ ، سأخبرها كم أحبها حقاً من قلبي ، سأخبرها كم أنا نادم على كل ما ارتكبته في حقها من ذنوب .
و لكن هيهات ، هل سترضى و ستصدق كلامي حقاً هذه المرة أيضاً ؟
فكم من مراتٍ أخبرتها بتلك الكلمات البراقة المخادعة؟ 
و لكني كنت دوماً قاسياً و أخلف بكل وعودي بكل خسة و دناءة .
فهل ستصدقني هذه المرة يا ترى ؟
فليكن .. لا يهمني إن كانت ستصدقني أم لا .
يكفيني فقط شرف المحاولة .
فقط أود لو أراها ثانيةً .
و لكن أين أستطيع أن أعثر عليها ثانيةً ؟ أين ؟
بالتأكيد قد رحلت إلى أبعد مكان ممكن ...
... و بلا عودة .
أثارت فكرتي الأخيرة رجفة و قشعريرة رعب في جسدي الذي أصبح واهناً منذ رحيلها 
و لكن على كُلٍ علي أن أبذل قصارى جهدي و أن أحاول العثور عليها ..
... و بأي ثمن .
نهضت من مكاني في سرعة شديدة وقد ألهبت الحماسة جسدي ، و توجهت مباشرةً نحو باب حديقة المنزل وفتحته لأدلف خارجه إلى الشارع .
ثم بدأت أنظر إلى كل ما حولي في يأس ...
كم بدا لي العالم واسعاً للغاية في تلك اللحظة ؟!
كم بدا لي العثور عليها عسيراً في تلك اللحظة !
و لكن لا ... لا ينبغي علي أن أسمح لليأس بالتسلل إلى عروقي بتلك البساطة .
ينبغي أن أحاول بكل ما أوتيت من قوة أولاً ، ثم ستكون مشيئة الله .
عادت لي الحماسة من جديد ، فبدأت أركض في كل مكان ، و أخذت أجول هنا و هناك ، بحثاً عنها في لهفة شديدة بتفاؤل عجيب . 
شرعت أسأل جميع جيراني و أصحاب المتاجر المجاورة للمنزل عنها : هل رأيتها ؟
و لم أكن أيأس قط عندما يخبرني باقتضاب : كلا ، لم آرها .
و لم حماستي تنقص و لو بمقدار ذرة واحدة ...
أو هكذا ظننت ..
فلكل شيء نهاية ..
حتى حماستي المتفجرة ... و آمالي العظيمة في العثور عليها
فقد بدأت حماستي تنقص شيئاً فشيئاً ...
حتى تلاشت و تبخرت أو كادت ...
ثم قررت بالفعل أن أعود أدراجي إلى حاملاً معي خيبة آملي الكبيرة صدمتي الشديدة برغم توقعي لذلك الاحتمال المتشائم .
و لكن شاءت الأقدار أن لا أعود لمنزلي بخُفي حنين ...
فهناك و على مقربة من المنزل 
ارتفعت معنوياتي من جديد ..
و إلى أقصى حد ..
**************************************************************************** لا أصدق عيني !
لقد رأيتها حقاً !
إنها هي و لا شك !
أنا واثق من ذلك أشد الثقة 
كلا ، أنا متأكدٌ من أنني لست واهماً مطلقاً 
بل أنني أراها هي .. نعم هي !
نفس طريقتها في السير
أوداجها منتفخة في شموخ
رأسها يتألق و كأنما يعلوه ألف تاج 
وجهها يبرق بريقاً منافساً لضوء الشمس
و كانت تنظر إلي ...
نظرة تحمل الكثير من المعاني ...
و الكثير جداً
كانت تحمل الحب
و العتاب و اللوم 
كانت مزيجاً عجيباً بين كل العشق ...
و كل البغض !
نظرت إليها في صمتٍ و خجل 
حاولت أن أقول الكثير و الكثير جداً 
و لكن الكلمات وقفت في حلقي جامدة و أبت أن تعبر شفتاي .
حاولت أن أعتذر ، و أن أخبرها كم أحبها ، و كم أنا نادم على كل ظلم ظلمته لها ؟
و حاولت أن أعدها بأنني لن أكرر هذا مجدداً قط .. نعم حاولت و بصدق ..
.. و لكنني عجزت
فبرغم كل شوقي للقائها و رؤيتها ، عجز لساني عن الحديث في تلك اللحظة 
لم أستطع أن أفعل شيئاً عدا التسمر في مكاني . 
و لكنها فهمت كل ما أريد قوله .
لقد قرأت لسان حالي و كل ما يجوب بعقلي في تلك اللحظة ببراعة منقطة النظير .
و بدت عيناها تفيضان بنظرات السخرية و الاستنكار ، كانت كأنما تقول لي بأنها ترفض المزيد من الاعتذار الذي سئمته و بغضته ..
و ظل الموقف جامداً كما هو للحظات بدت لي كالدهر تبادلنا فيها العديد من النظرات و التي كانت تحوي في ثناياها الكثير و الكثير من الكلمات ..
و فجأة و بدون مقدمات ، استدارت هي و أخذت تسير مبتعدة ً في صمت ...
و هنا نزعت عن نفسي حبل الهدوء و قطعت حبل الصمت صارخاً بأعلى صوتي : 
لا ، لا ترحلي ، عودي ارجوكِ .
و لكن رغماً عني ، خرج صوتي متحشرجاً بغرابةٍ شديدة ٍ . 
و واصلت هي سيرها بدون أن تبدو منها أي التفاتة .
هتفت مجدداً و أنا أركض مسرعاً لألحق بها : أرجوكِ سامحيني و عودي ، لا ترحلي أرجوك .
و لكنها ابتعدت عن انظاري تماماً ، فتوقفت أنا عن العدو و صرخت يائساً و الدموع تترقرق من عيناي : لا ترحلي ، أرجوكِ .
" لا " 
صرخت بها بأعلى صوتي و أنا أنهض مفزوعاً أيما الفزع من على فراشي ، و أخذ أن ألهث بعنف ، و كأنما كنت في سباقٍ للعدو .
نهضت من على فراشي ، و ذهبت لتناول كوبٍ من الماء .
ثم عدت لأتابع نومي مجدداً ، آملاً أن يكون هادئاً و خالياً من الاحلام هذه المرة .
و قبل أن أصعد للفراش ، لمحتها ...
لمحت تلك الصورة ... 
صورتها ...
الصورة التي احتفظت بها و أقسمت انها لن تغادر مكانها على الطاولة التي تجاور فراشي ، ما حييت .
و برفق أمسكت تلك الصورة ، و وضعتها نصب عيني في هدوء .
و أخذت أتأمل فيها بصمت مهيب .
و أخذت أٌقاوم الدموع التي قاتلت في استماتة للفرار من على عيني ..
و خسرت أنا و فازت دموعي
فأخذت تنساب ساخنة ً على وجنتاي في غزارة و لم أبذل أدنى جهد في مقاومتها هذه المرة ..
و بدأت ذكرياتي الأليمة
كم ظلمتها ؟ 
كم أهملتها ؟ 
كم تجاهلتها ؟
حتى رحلت ...
لم أعرف كم أحبها حقاً إلا عندما فقدتها
لم أعرف كم كانت مهمة بالنسبة لي إلا عندما تركتني ...
و لكن لا ...
لا ينبغي علي أن أجلس في مكاني هكذا ، أغرق في دموعي و أندب حظي هكذا .
لا ينبغي أن أجلس و أتحسر على أخطاء الماضي بهذه الصورة .
بل ينبغي علي أن أكون أكثير إيجابية ...
ينبغي أن أفعل شيئاً لأكفر عن ذنوبي على الأقل .
تخمرت الفكرة كثيراً فقررت أن أنهض قائلاً في حسم : نعم فلأفعل ذلك .
عدت إلى منزلي في سعادة لم يسبق لها مثيل ، منذ أن رحلت هي ...
خطوت داخل المنزل بهدوء و ثقة غير معتادة ...
و بسرعة توجت نحو غرفة نومي ... 
و فتحتها ...
و خطوت داخلها بثقةٍ أكبر و أكبر ...
و توجهت نحو الطاولة المجاورة لفراشي ...
و رأيت تلك الصورة ... 
ثانيةً ...
و لكن هذه المرة ، لم أبكي قط كما في السابق ..
بل العكس تماماً ...
ابتسمت ابتسامة واسعة ... 
للغاية .
ثم أشحت بوجهي عن الصورة و اتجهت نحو سريري ...
و استلقيت عليه في هدوء بدون أن تتلاشى ابتسامتي ، ثم أغمضت عيناي ..
فقد عزمت هذه المرة ، أن يكون نومي هادئاً و مطمئناً ..
و عميقاً ..
.. و إلى أبعد الحدود
" لقد رأيتها هنا "
قلتها و أنا أقف جامداً في مكاني و في نفس البقعة التي شاهدتها فيها مسبقاً .
وقفت في مكاني ثابتاً متأملاً ..
و أخذ الوقت شيئاً فشيئا بتثاقل ممل ..
و أنا أنتظر في صبرٍ و صمت ..
و على النقيض ، كلما مر الوقت ..
كلما أخذت حماستي في الازدياد أكثر و أكثر ...
و فجأة ...
و قبل أن يبدأ اليأس في أن يجد طريقه إلى قلبي مجدداً ..
رأيتها قادمة نحوي من بعيد ...
كانت زاهية ً ككل مرة ...
و لكنها كانت أجمل و أجمل ..
شعرها الذهبي اللامع ينسدل على كتفيها و يبرق كألف شمس 
عيناها بدت أكثر زرقةً من ماء البحر ، و إن تشابها بإمكانية الغرق في كليهما ..
وجهها كان يجابه شعرها في بريقه ..
و بصعوبة بالغة انتزعت نفسي من انبهاري بجمالها الشديد و تقدمت نحوها في صمت قائلاً : لقد فعلت كل ما كنتِ تريدينه مني يا حبيبتي ، فهل انتِ راضيةً عني الان ؟
أومأت مبتسمة قائلةً : بلى ، أدري بكل ما فلعت .
قال لها متسائلاً : و كيف عرفتِ ؟
قالت له و قد اتسعت ابتسامتها : في مكاني هذا ، لا يخفى علي أي شيء .
قال لها متسائلاً : و هل سامحتني الان ؟ 
قالت له : بالتأكيد ، لقد فعلت كل ما بوسعك و تخليت عن عنادك الغير مبرر و وصلت للطريق السليم أخيراً و هذا هو المهم .
ابتسم لها بارتياح ثم قال لها لهفة : ألن تعودي معي إذن ؟
أجابت قائلةً : كلا ، لا أستطيع أن أعود ، لما لا تأتِ معي أنت ؟
قال لها بعد أن فهم مغزاها : أليس الوقت مبكراً ؟
قالت لها متحمسة ً : كلا إن الوقت مناسب الان ، لقد فعلت كل ما بوسعك ، فأعطيت أخي الفرصة ، و سلمت الوثائق المهمة للشرطة ، و تركت العدالة تأخذ مسارها الطبيعي ، ألا ترى أن الوقت مناسباً ؟!
قال لها موافقاً : نعم انتِ على حق أنا آتٍ معك ، هيا بنا إذن !
قال له : اتبعني إذن .
و بانبهار شديد تابعتها و هي تحلق في أعالي السماء بخفةٍ و رشاقة
في البداية وقفت ثابتاً في مكاني متردداً و مكتفياً بالمشاهدة فحسب ..
فلاحظت هي ترددي فقالت لي مبتسمةً : هيا ، عليك بالقفز فقط ..
ترددت في البداية و لكن بعدها قفزت ، و ما أروع تلك اللحظة ..
انني أطير ، فعلاً أطير ، هذا ليس حلماً 
و بساعدة أخذت اتتبعها في صمت ..
و من فوق لمحت جسدي راقداً على الفراش مبتسماً ...
ابتسامة السعادة ...
الاخيرة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق