مفكرة صغيرة تضعها بداخل حقيبتها التى تذهب بها الى كل الأماكن ، عدد أوراقها ربما يكون بعدد أيام غيابه ، كل يوم يمر تكتب بعض من الكلمات المبهمة التى تعبر عن إشتياقها إليه ومعاناتها من إبتعاده .كل يوم يمر يقل عدد أوراقها تدريجيا ، إلى أن تنتهى بعودته من السفر .كل عام تصنع مفكرة جديدة بنفس عدد الأوراق ويكون مصيرها مثل سابقاتها .
قد كان زواجهم تقليديا بعض الشىء ، كما هو معترف فى مجتمعنا اليوم ، ورغم ذلك إستطاعت أن تغمره بمشاعر قوية ،فياضة وصادقة ، فخبراتها بالجنس الأخر قليلة إن لم تكن منعدمة .
أقنعت نفسها منذ أن رأته أول مرة فى بيت والدها يطلب يدها بحبه ، بل وصدقت ذلك ، وأدركت بأنه نصفها الأخر ، الذى طالما حلمت به ،قد أتى . إزداد أطمئنانها ، حينما فرح والدها به ، وتوسم فيه مستقبل أفضل لأبنته ، فهى دائما ما تثق فى قرراته .
ومنذ يومها تعاهدت أن تضعه بداخل جدران قلبها ، وتغلق من خلفه بمفتاح من حديد .
تكلمه على الهاتف بين الحين والحين الأخر ، لتطمئن عليه فى غربته ، والشوق يعصر قلبها .غالبا ماتكذب عليه وتدعى القوة والثبات ، فهى لا تريد أن ترهقة بمشكلاتها ، تستحى فى بعض الأحيان أن تعبر له عن مشاعرها ، فتدعى بأن الأولاد يشتاقون إليه كثيرا ، وهو يعلم جيدا بدقات قلبها .
دائما ما يحل الليل كعادته ضيف ثقيل ، يدق بلؤم على قلوب الساهرين ، يلمس جراحهم القديمة فيعيد عليها اّلامها ،فيوزعها على الجسد كله . تأخذ بعض من قطرات زجاجة عطره المفضلة ، حيث تذكرها به ، تمررها على جسدها البائس المشتاق اليه ، وعلى الوسادة بجوارها على السرير ، فهى مسكينة عاجزة ، كل ماتستطيع فعله ، هو أن تستنشق عبير رائحته .
ما أقساها تلك الغربة ! التى تفرق بين القلوب ، وتطفىء إشتياقها ، وتبرد المشاعر الحارة ، بل وتجعلها مملة فاترة ، راكدة كالمياة الأسنة .
فالغربة تفعل الكثير والكثير بصاحبها بل وتحولة لشخص أخر ،مختلف تماما ، فى مقابل مجموعة من الأوراق الملونة المختلطة بالنقود المعدنية ، التى تتحكم فى كل شىء بمفعولها السحرى ، وتسلب منا أجمل لحظات العمر ، وتضيعها فى الإنتظار .
تمر الأيام وتمر ، وتنتهى أوراق تلك المفكرة ، يقترب موعد قدومة ، تبدأ بالتأهب والإستعداد لإستقباله ، كالمعتاد من ترتيب المنزل وتجهيز نفسها . لقد كبر الأولاد بعض الشىء أثناء غربته ، بالطبع سيزيدونه بهجة برؤيتهم .
تستقبلة بإبتسامة حارة ومشاعر ملتهبة ، وأشتياق عارم ، محتفظه به طوال عام مضى . تقابلها إبتسامة مصطنعه باهته تعلو شفتيه ، أحاديثه أصبحت غامضة ، أضفى عليها الطابع المادى ، عيناة تخفى من خلفها العديد والعديد من الأسرار .
مشاعرة جامدة متصلبه ، قد يكون أصابه بعض من الغرور والتكبر حتى على أقرب ماله ، حينما بدأ أن يلمسها كانت تشتاق لرائحته ، لكنها تغيرت ، أصبحت غريبة ، تبدلت برائحة جديدة أكثر فخامة وأغلى ثمناّ ، كلما يحاول أن يقترب منها ، لا تشعر به ، تزداد الفجوة بينهم ، لقد أصبحت رائحته ، رائحة مجهولة .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق