في كبد نهار يتأجج بالضوضاء ، تعدو الحياة
مسرعة مع عجلات السيارات، وتترنم بأصوات صريرها على الأسفلت ..
لا يعرف
تغريد الطيور هاهنا سبيلا ، وقد خاصم الهدوء تلك الضاحية.
وليس
بعيدا أن تسمع في اليوم الواحد أكثر من صوت ارتطام، فتدرك أن سيارتين قد احتضنتا
بعنف هتهشمت بعض الأجزاء من الاثنتين ، ثم يتوالى السباب من كلا السائقين لبعضهما
البعض ، فلا تنجو أذناك من صفعاته التي لم تعد مؤذية لفرط الاعتياد !
فإشارات
المرور متخاصمة ، تتباعد في جفاء بين عشرات الكيلومترات!
وفيما
بينها يتسكع بعض المتسولين باسطين كفوفهم، أو حاملين أكياسا من المناديل ، أو ربما
ماسكين قطعا من الخرق يمسحون بها رجاج السيارات أملا في كسب بضع قروش.
وغلمان
ذووا ألبسة متهتكة ، يعبثون في أكومة من القمامة تتناثر بين مسافات متباعدة على
النواصي.
ولصوص
بين ذاك الزخم ينتشرون في الزحام، يمارسون مهامهم الملوثة السرية. فينتشلون محفظة
أو يختلسون جنيهات، ويعتبرون هذا العمل مشروعا كالتسول الغير مباشر! حتى صاروا
يرتدون لأجله الملابس الأنيقة!
     استقل أحدهم إحدى سيارات الأجرة ، وتزاحم مع
راكبيها ..
كانت
هيئته لا تدعو للشك، ولم يستطع أحد تخمين هويته .. أخذ ينظر إلى الركاب بعين اللص
الذي يستشعر وجود المال في جيوب أحدهم أو في حقيبة إحداهن ..
     تكاد تتشابه وجوه راكبي
"الميكروباص" أو "الميكروباظ" –لدى البعض- كما تتشابه الهموم
وتتقارب، فيبدو أن لسيارات الأجرة طبقة خاصة من مجتمع الهم الثقيل تضفي كآبة
ومأساة على وسائل المواصلات الرخيصة. ومع ذلك لا يرحمهم المتسولون والنشّالون من
حقهم في التسول والنشل!
تتقاذف
التأففات ،
ويتصبب
العرق ..
ويصيح
السائق : "الأجرة يا جدعان"
     إنها اللحظة ..
لحظة
اختيار الضحية، التي ستخسر بعض الجنيهات خلسة !
فمد
الرجال أياديهم في جيوبهم ، كما فتحت السيدات حقائبهن الفقيرة ، وبدت رنات العملات
المعدنية .. والعين المتلصصة تراقب ..
وصاح
أحد الركاب : "هاتوا الأجرة أنا هالمها.."
كان
يبدو من ملامحه أنه بين الرجولة والشيخوخة، أصلع الرأس، ويبدو أيضا أن اللص قد
وجّه تركيزه إليه ، وأخذ يراقبه ويستمع لرنة وراء رنة وهو يجمع الجنيهات المعدنية
في قبضته .. وبعد أن انتهى :
-        
فيه حد تاني لسة مادفعش؟ ... اتفضل يا اسطى اجرة عربيتك
كلها ..
ثم أخذ
يثرثر هذا الأصلع قائلا : "آه يا بلد زحمة ومافيكيش لقمة .. يا بلد الأكابر
والمقابر .. يا بلد اللحمة والفحمة .. يا بلد الكروش والقروش .."
وقطع
خواطر الأستاذ الصوت الأجش للسائق :
-        
ناقص واحد مادفعش!
فصاح
الرجل :
-        
ازاي الكلام ده! الاستاذ اداني 5 ، والمدام ادتني 7 ،
والآنسة ادتني 4 ، وانا اجرتي كانت ف ايدي .. كدة وصلك 17 ..
-        
لأ ماوصلش غير 16 .. مين ناسي نفسه ومادفعش خلصونا
ياخوانا .."
أما
اللص فقد خاطب سريرته متسائلا عمن يمكن أن يكون جيبه فارغا من جنيه واحد؟! وقد دفع
هو نفسه أجرته ولم يخلسها!
أخذ
يجول بعينه ثانيةً شاعرا بأنه قد فقد موهبته الخارقة في شم الجيوب الممتلئة!
     "أيمكن أن يكون بالسيارة لصان؟!  أم أن أحد منافسيّ أراد مضايقتي؟!"
والمشاجرة
الكلامية تشتد ، 
وكل من
الجالسين ينفض التهمة عن نفسه مفسرا البراهين!
ومازال
الرجل الأصلع يقوم بالعمليات الحسابية ،
والسائق
يصراخ طالبا الجنيه!
والركاب
يصرخون مؤكدين على الدفع..
     وبعد الشد والجذب، تبرع أحدهم بدفع الجنيه
الناقص .. فهدأ السائق ، ثم هدأ الجميع بينما أخذوا ينظرون لبعضهم البعض باحثين
فيما بينهم عن المذنب!
وتحولت
أنظار اللص إلى المتبرع ذاك ، أخذ يتفحصه وهيئته ، ولكن لم يكن هناك سبيلا إليه ..
وبعد
مشاورات داخلية لاختيار الفريسة ..
أخذ
يقترب لص العربة من الرجل الأصلع الذي استأنف همهماته بعد انتهاء الضجيج.
يجتهد
في الالتصاق به ..
وبدأت يداه
الخفيفتان تعبثان بالقرب من جيوب بنطال الرجل .. وعندما كان ينتبه لتحركات جاره ،
يتظاهر الآخر بالتأففات ومسح عرقه .. وحينما يعود شروده ، يعود الآخر لمحاولاته ..
     تباطأت اليد نحو الجيب الخلفي، ودخل اصبعان
بخفة .. فلم يجدا شيئا !
     فسحب يده، واتجه نحو الجيب الأيمن، فأدخل
اصبعا جال بسرعة ومرونة .. فعاد كأخويه خاويا !
     فاعتدل بحيث اقترب من الجيب الشمال ، وقفزت
الأصابع البهلوانية داخل الجيب الفضفاض، فلم تشم رائحة قرشا واحدا !
     اضطرب اللص في حيرة ..
وبات
شائكا في نفسه وفي قدراته .. وبدا الغضب يتسلل إلى ملامحه لائما نفسه وقد صار لصا
فاشلا! وسوف يسخر منه زملائه وغريموه ، ويقذفه "المعلم" باالمهانات ..
تكاد
شرارات تنطلق من عينيه لتنقض على عنق الرجل قائلا "لماذا جيوبك خاوية؟!"
     بلغت السيارة مرادها ..
     وبلغت الأزمة باللص مداها ..
فهجر
العربة، ونزل شاردا في مصيره ، وفي الرجل الأصلع ..
واختلس
آخر نظرة إليه ، فأبصره مبتسما ، يمشي ويداه في جيوبه .. الفارغة!
ولم
يبقَ في سريرة اللص الفاشل سوى سؤال واحد ..
     "كيف دفع الرجل أجرته؟!"
هدير زهدي
9/9/2012